الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف وتركيبه غريب إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم وتصاريفه.والدين: الجزاء ومنه الحديث المرسل عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان» وقيل فرق بينهما فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازى والجزاء أعم.وقيل الدين اسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به فلا يقال لمن جازى عن غيره أو أعطى كثيرًا في مقابلة قليل دين ويقال جزاء والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى فيوم الدين هو يوم الجزاء ويؤيده قوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 7 1] و: {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 8 2] وإضافة مالك إلى يوم على التوسع وقد قال النحاة الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله والأول كيوم وليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى في فيجرى مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير فإذا قلت سرت اليوم كان منصوبًا انتصاب زيد في ضربت زيدًا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازًا لأن السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم ولا يظهر في الاسم وإنما يظهر في الضمير كقوله:
وإذا توسع في الظرف فإن كان فعله غير متعد تعدى وإن كان متعديًا إلى واحد تعدى إلى اثنين وإن كان متعديًا إلى اثنين تعدى إلى ثلاثة وهو قليل ومنعه البعض وإن كان متعديًا إلى ثلاثة لم يتعد إلى رابع في المشهور إذ لا نظير له.وحكى ابن السراج جوازه والتوسع هذا تجوّز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف ولذا قال الرضى: اتفقوا على أن معنى الظرف متوسعًا فيه وغير متوسع فيه سواء والمعنى مالك الأمر كله في يوم الدين وهذا ثابت له سبحانه أزلًا وأبدًا لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك أو من الصفات الفعلية وهي عند الماتريدية مثلها بل قال الزركشي من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال أو المعنى ملك الأمور يوم الدين على حد: {وَنَادَى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44] ففي الآية استعارة تبعية كما يفهمه كلامه العلامة البيضاوي في تفسيره وعلى التقديرين يصح وقوعه صفة للمعرفة لأن الإضافة حينئذ حقيقية ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف لأنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه كما قاله الشريف وفيه تأمل والأولى باستمرار الاعتبار اعتبار الاستمرار والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لاشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن {يوم الدين} وما فيه ليس مستمرًا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكًا على الاستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالاستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكًا للشيء إلا إذا كان موجودًا ويوم الدين غير موجود الآن، وأجاب غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققًا جعل كالقائم في الحال وأيضًا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال، ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد أن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكًا للأمر كله لأن تلك الزمان كتلك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت {ملك} تسلم من هذا القيل والقال إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر وهو ملحق باسم الفاعل فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يزيدني في المالك حبًا، وإنما قال: {مالك يَوْمِ الدين} ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحًا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو اعتباره عن لطف، وأيضًا للدين معان شاع استعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرًا وباطنًا وجعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير، وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وإما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما انسلاخًا ظاهرًا في الآخرة: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 5 9] وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادًا لا خفاء فيه ولذلك قال سبحانه: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْس لِنَفْسٍ شَيْئًا والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 9 1] و: {لَمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 6 1] وأيضًا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفًا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما افتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة، إما لكونه كاملًا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنًا إليهم ومتفضلًا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني أنا والله وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا {مالك يوم الدين}.ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه ربًا للعالمين رحمانًا رحيمًا بهم مالكًا لعاقبة أمورهم في القيامة، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللًا به فدل ذلك على ثبوت الحمدلة قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من الله تعالى لإيجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضًا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 8 2] وباسم الرب للنفس الشيطانية: {رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} [المؤمنون: 7 9] وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 6 2] وباسم الرحيم للنفس البهيمية: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة: 5] وب {مالك يوم الدين} للبدن الكثيف: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 1 3].وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضًا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي {مالك يوم الدين} وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد. اهـ.
|